رأى فآمن
أحداث إنجيليّة
إنّ الأحداث التي يذكرها الإنجيل ليست أحداثًا تخصّ من جرت لهم وحسب ولا أحداثًا تقع وتقبع من ثمّ في الماضي. أحداث الإنجيل، نظير غيرها من الأحداث التاريخيّة، أحداث وقعت في زمان معيّن ومكان معيّن من التاريخ، إلاّ أنّها تختلف عنها بل تمتاز عنها بأنّها أحداث من أجل الحاضر والمستقبل، أحداث تبتدئ حين تقع وتمتدّ إلى الأمام، إلى نهاية التاريخ، إلى حلول الملكوت السماويّ النهائيّ والتامّ، إلى حين يصير يسوع الكلّ في الكلّ.
لمّا ذهب يوحنّا الرسول إلى قبر يسوع الفارغ قال عن نفسه إنّه: “رأى فآمن”. نحن اليوم من الذين آمنوا ولم يروا، من الذين قال عنهم يسوع “طوبى للذين آمنوا ولم يروا”. بيد أنّنا مدعوّون إلى أن نرى بالإيمان الأحداث الإنجيليّة بحيث نجعلها حاضرة في حياة اليوم وقائدة إلى المستقبل فنتمكّن من القول إنّنا “آمنّا ورأينا”.
أحداث الإنجيل أحداث جرت لمن جرت لهم، ولا شكّ بذلك، إلاّ أنّها أحداث جرت من أجلنا أيضًا، حتّى يطّلع عليها ويستفيد منها الجميع في كلّ وقت وكلّ زمان، وحتّى يستطيع كلّ امرئ أن يقول عنها ما قاله الرعاة عن حدث الميلاد: “لنمضِ إلى بيت لحم وننظر هذا الحادث الذي أطلعنا عليه الربّ” (لوقا 2: 16).
هكذا، على سبيل المثال، قيامة لعازر: “وأنا من أجلكم أفرح بأنّي لم أكن هناك لكي تؤمنوا. فهلمّوا بنا إليه” (يوحنّا 11: 15)؛ وهكذا تأسيس الإفخارستيّا: “هذا هو جسدي الذي يبذل لأجلكم… هذه الكأس هي العهد الجديد بدمي الذي يهراق من أجلكم” (لوقا 22: 19-20)؛ وهكذا قيامة يسوع: “فلأجلكم أوّلاً أقام الله فتاه وأرسله لكي يبارككم فيرتدّ كلّ واحد منكم عن شروره” (أع 3: 26)؛ وهكذا أحداث الإنجيل كلّها: “وصنع يسوع أمام التلاميذ آيات أخرى كثيرة لم تدوَّن في هذا الكتاب، وإنّما دُوِّنت هذه لكي تؤمنوا أنّ يسوع هو المسيح ابن الله، وتكون لكم إذا آمنتم الحياة باسمه” (يوحنّا 20: 30-31).
أحداث الإنجيل أحدث تاريخيّة، إلاّ أنّها أيضًا آيات، لها صفة المعجزة. فنستطيع لذلك أن نصفها بأنّها أحداث إلهيّة أجراها الله نفسه بقدرته الإلهيّة، أحداث ترينا أنّ الله هو سيّد التاريخ “إذ به نحيا ونتحرّك ونوجد” (أع 17: 28)، هو صانع التاريخ، صنعه بواسطة الابن “الذي به كوّن كلّ شيء وبدونه لم يكن شيء واحد ممّا كوّن” (يوحنّا 1: 3)، ويصنعه أيضًا بواسطتنا نحن أعضاء جسد يسوع.
وبما أنّ أحداث الإنجيل هي هذه، أحداث جرت من أجلنا في زمن من التاريخ وتمتدّ إلى الأبديّة، تدعونا الكنيسة باسم يسوع إلى النظر والتأمّل فيها وإلى استنباط ما نستطيع استنباطه منها ليساعدنا على عيش كلّ حدث اليوم وهنا.
إنّها دعوة يسوع المستمرّة “تعال وانظر” ، حتّى ننظر بأنفسنا ونؤمن ليس إيمانًا تقليديًّا أو جماعيًّا أو وراثيًّا وحسب بل أيضًا وخصوصًا إيمانًا شخصيًّا مبنيًّا على قناعات. إنّ مثل هذا الإيمان هو الذي يدفعنا إلى العمل، إلى الالتزام العمليّ، فلا يبقى إيماننا إيمان من تعلّم في الكتب بل يكون إيمانًا حيًّا بالأحداث التي ينقلها الإنجيل إلينا.
الكتيّب الذي بين أيدينا يندرج في إطار دعوة الكنيسة هذه، اخترنا له بعض الأحداث الإنجيليّة راجين أن تنقل مطالعتُها القارئَ من الماضي إلى الحاضر والمستقبل، بحيث يكون يسوع الذي “هو هو أمس واليوم وغدًا” (عبر 13: 8) حيًّا فينا على الدوام.
البطريرك يوسف العبسيّ