قداديس و صلوات

البطريرك العبسيّ في ذكرى رقاد “خادم الله” المكرّم الأب بشارة أبو مراد

كلمة البطريرك العبسيّ
في ذكرى رقاد “خادم الله” المكرّم الأب بشارة أبو مراد
“فرحت لـمّا قيل لي لنذهب إلى بيت الربّ”. هذه هي الآية الكتابيّة الجميلة التي خطرت ببالي ولمست إحساسي لـمّا دعاني قدس الأب العام للرهبانيّة الباسيليّة المخلّصيّة الأرشمندريت أنطوان ديب إلى زيارة هذا الدير المقدّس العامر في ذكرى رقاد “خادم الله” المكرّم الأب بشارة أبو مراد. وفي طريقي اليوم إلى هذه “الأكمة النيّرة” المعطّرة بقداسته كان قلبي الفرحان يرنّم له هذا النشيد الكنسيّ: “مغبوطة الأرض التي وطئتها أقدامك يا أبانا البارّ بشارة خادم الله ومقدّسة الأماكن التي أخصبتها كلماتك فقد غلبت العدوّ في الميدان وكرزت بالمسيح بشجاعة”. في هذا النشيد خلاصة لحياة الأب بشارة.
كان الأب بشارة “خادم الله” حتّى إنّه لُقّب بذلك. وما أصدق وما أجمل هذه العبارة في حياتنا نحن المسيحيّين وفي حياتنا نحن المكرّسين لله بنوع خاصّ. قد ينفر البعض من هذه العبارة ويعدّها انتقاصًا من كرامة المسيحيّ بإزاء أبوّة الله، أمّا الأب بشارة فقد كان يرى فيها حقيقته. إنّها الطاعة لله. لذلك ما رفض يومًا خدمة طلبها منه رؤساؤه. إنّه بتصرّف الله من خلال المسؤولين. ألم يقل لنا الربّ يسوع: “مهما فعلتم فقولوا إنّنا خدّام بطّالون”؟ وما طلبه الربّ يسوع منّا إنّما عَمِلَهُ هو أوّلاً حين اتّخذ صورة خادم وصار طائعًا حتّى الموت على الصليب كما يقول القدّيس بولس، ممّا جعل هذا الرسول يقدّم بدوره نفسه على أنّه خادم ليسوع طالبّا منّا جميعًا أن لا نرى فيه إلاّ كذلك، من ناحية، وأن نكون نحن خدّامًا بعضنا لبعض بالمحبّة، من ناحية أخرى. الأب بشارة أبو مراد “خادم الله”، يعني أن يدع الله يعجن حياته، يوجّه أعماله، يلهم أفكاره، ينير قلبه. أن نكون خدّاما للربّ يسوع هذا لقب الشرف لنا. وكم نحن بحاجة إلى إقناع ذواتنا بأنّنا كذلك، وبأنّنا لسنا إلاّ كذلك.
قضى الأب بشارة خدمته الرهبانيّة الكنسيّة، خدم الله، أكثر ما خدم، في العمل الراعويّ، متنقّلاً من قرية إلى قرية، واعظًا، مرشدًا، ناصحًا، معطيًا الأسرار، مشدّدًا، محسنًا، فقيرًا، لا يحسب حسابًا لا لبرد ولا لحرّ، لا لخوف ولا لخطر، لا لجوع ولا لتعب، حتّى قال عنه أحدهم: “إذا كان القدّيس شربل تقدّس في النسك فالأب بشارة تقدّس في الخدمة الرعويّة”. كلام صحيح. بيد أنّ الأب بشارة الراهب لم يغب يومًا عن الأب بشارة الراعي والمرسل. لقد كان ساكنًا فيه، وهذا في اعتقادنا ما جعل خدمته بلا عيب ولا مشتكى. لقد كان الأب بشارة راهبًا في كلّ عمل وفي كلّ لحظة وفي كلّ خاطرة. وإنّه بذلك يقدّم لنا مثالاً للراهب الذي يمارس الخدمة الرعويّة ويعلّمنا في الوقت نفسه أنّ الجمع بين الترهّب والرعاية ممكن بل لازم. فالترهّب هو أسلوب تفكير وأسلوب عمل ينبغي أن يكون لدينا كلّنا ولو تنوّعت الأعمال. هذه نقطة ملحّة في أيّامنا الحاضرة لا تحتمل الانتظار يجدر بل يجب التوقّف عندها في تأمّلنا بسيرة الأب بشارة وفي سعينا إلى إعلان قداسته.
أيّها الأحبّاء، نحن اليوم واقفون في المكان حيث وُضعت الحجارة والمداميك الأولى لكنيستنا الملكيّة على يد المثلّث الرحمة المطران أفتيميوس صيفي الدمشقيّ، مطران صور وصيدا آنذاك، الذي تمكّن من أن يجمع في ذلك الوقت من حوله، هنا وفي صيدا، جماعة من الكهنة والرهبان، وشرع من ثمّة في عام 1710 يبني لهم هذا الدير ومن بعد هذه الكنيسة في عام 1720، وكان من بينهم أوّل بطريرك لنا، البطريرك كيرلّس طاناس الدمشقيّ. ومنذ ذلك الحين إلى اليوم الحاضر انطلق الرهبان المخلّصيّون لخدمة كنيستنا بشتّى الوسائل والأساليب المتاحة، بغيرة واندفاع، في كلّ مكان استطاعت أقدامهم أن تطأه، عملاً بوصيّة مؤسّسهم القائل: “إنّي أرغب أن أبشّر بالإيمان الكاثوليكيّ في كلّ آن وأين تيسّر لي الإنذار فيه. وما رغبت قطّ في عمار هذا الدير لراحتي ولا لراحتكم. ولا صيّرتكم رهبانًا متدرّجين لكي تخدموا ديركم وذواتكم فقط. ولا قصدت أن أجعل سكّان هذا الدير عقيمين من كلّ ثمرة نظرًا للقريب”. هذه الوصيّة كانت متغلغلة في روح الأب بشارة وحاضرة في ذهنه تشغل باله فجسّدها حقّ تجسيد وتمكّن بواسطتها من أن يبلغ إلى درجة القداسة.
وهي ذي الرهبانيّة المخلّصيّة بل نحن الملكيّين بل نحن المسيحيّين بل لبنان كلّه منشغلون اليوم بالأب بشارة نترقّب ساعة إعلان تلك القداسة. أجل نحن منشغلون بذاك الذي لم يشأ إلاّ أن يكون خادمًا لله، ومنشغلون بصواب. غير أنّ انشغالنا به اليوم لا يقدر أن يمحو من ذاكرتنا، أن ينسينا تلك السحابة من الرهبان القدّيسين الذين ولدتهم الرهبانيّة المخلّصيّة على مدى تاريخها ولو أنّها لا تسعى إلى إعلان قداستهم. أولئك الشاهدون الصامتون على مخلّصهم والذين بلغ عدد منهم شهادة الدم. أولئك القدّيسون المنسيّون، حماة هذه الرهبنة وضمانتها واستمرارها. وحين نقيم اليوم وفي غير اليوم تذكارًا للأب بشارة نذكرهم معه. إنّه واحد منهم وهو نفسه شاهد على قداستهم، ولا أظنّه يرضى بأن نكرّمه من دون أن نكرّمهم. في هذا التذكار المقدّس إذن لا نذكر الأب بشارة وحده بل أولئك كلّهم وما كان أكثرَهم لو أحصيناهم.
بل إنّي أرى ما هو أبعد من ذلك. بتكريمنا للأب بشارة نكرّم الرهبانيّة المخلّصيّة التي ولدته واحتضنته ورعته. كان للأب بشارة معلّم بلا شكّ هو يسوع، ولكن كان له مدرسة أيضًا هي الرهبانيّة المخلّصيّة. أجل، لهذه الرهبانيّة ضلع في قداسة الأب بشارة وغيره، إنّما ليس في ذلك فقط بل في أمور أخرى كثيرة. منها نبت بطاركة وأساقفة. من رحمها وُلدت الجمعيّة البولسيّة. من مدرستها الأمّ وغيرها تخرّج أطبّاء ومحامون ومهندسون وكتّاب وأدباء وصحفيّون وفنّانون وسياسيّون. أبواب محبّتها ورحمتها كانت وما زالت إلى هذه الساعة مشرعة للفقير والمعوز والجائع والمريض والمتروك، لا تميّز بين لون ولون، لا تمدّ يدًا وتحبس أخرى. مشاريعها الإنمائيّة ذاع صيتها وأدّت للبنان خدمات جلّى. ديرها هذا الذي نحن واقفون فيه، دير المخلّص، منارة الإشعاع ومرجع التشاور وملتقى الحوار وواحة السلام، وجوده في هذه المنطقة على الأخصّ حاجة لا يُستغنى عنها، ليس لأبنائنا فقط بل لجميع من هم حوله، يبني القيم الروحيّة والإنسانيّة ويغذّي المواطنة والعيش معًا وينشر مناخات المحبّة والتسامح والتوافق. ولا عجب بعد ذلك أن نسمع الكلّ، من قمّة الجبل إلى شاطئ البحر، بعد كلّ نكبة أصابت الدير وكلّ تهجير، وما كانت قليلة، ينادون بعودته إلى حضنهم لأنّه الجامع والضامن لبقاء كلّ الفئات معًا. ولا عجب كذلك أن نرى المخلّصيّين يصرّون على البقاء هنا حيث زرعهم الله وأن يرمّموا صداقات ويبنوا أخرى جديدة، وأن تكون بيوتهم مراكز حوار ودورًا للصداقة. وزيارتنا اليوم في جانب منها تأكيد وتشجيع على ذلك.
أمّا الجانب الآخر الذي ابتدأت الكلام عنه فأودّ العودة إليه لأشير إلى أنّ الكنيسة حين تعلن البعض من أبنائها قدّيسين فذلك ليس لتكريمهم بقدر ما هو للاقتداء بهم. والأب بشارة ليس هو موضوع تكريم بقدر ما هو موضوع اقتداء. القدّيسون لا يحتاجون إلى التكريم البشريّ. الله وحده هو نصيبهم. هو الذي يكرّمهم ويكلّلهم. وهذا حسبهم: “كريم لدى الربّ موت أصفيائه”، يقول الكتاب المقدّس. “الله وحسبي” تقول القدّيسة تريزيا. حين بلغ القدّيس بولس غروب حياته قال لتلميذه تيموثاوس: ” إنّما يبقى إكليل البرّ المحفوظ لي الذي سيجزيني به في ذلك اليوم الربّ الديّان العادل” (2تيم 8: 4). كم من أناس يأتون إلى قبر الأب بشارة للتبرّك. كم من صلوات نرفعها إلى الله بشفاعته. كم من حفلات نقيمها لتكريمه. ما أكثر ما نمدح فضائله ونعجب لمعجزاته. هل فكّرنا يومًا بأن نكون على مثاله؟ “كونوا قدّيسين كما أنّ أباكم السماويّ هو قدّوس” يقول يسوع. “اقتدوا بي كما أنّني أنا أقتدي بالمسيح” يقول بدوره القدّيس بولس (1كور 1: 11. راجع أيضًا في 3: 17). إن لم نكن كذلك لا نستفيد شيئًا، بل نكون كالوثنيّين الذين يكرّمون هم أيضًا آلهتهم وأبطالهم والبعض منهم شرّير.
أيّها الأحبّاء، يوم كان المطران أفتيميوس الصيفيّ يؤسّس ويبني دير المخلّص هنا جاء عدد صغير من الرهبان من دير سيّدة البلمند إلى دير يوحنّا الصابغ في الخنشارة ليؤسّسوا هم أيضًا جماعة رهبانيّة. كنيستنا نشأت وقامت على الحياة الرهبانيّة. الحياة الرهبانيّة عصب الكنيسة. الحياة الرهبانيّة معيار الكنيسة. إن كانت هذه الحياة حياة قداسة فالكنيسة بخير. طالما أنّ عندنا الأب بشارة أبو مراد وأمثال الأب بشارة أبو مراد فنحن بخير. فلنصلِّ إذن من أجل أن يقيم الله منّا رهبانًا. لنصلِّ من أجل كلّ راهب نذر ذاته لله. لنصلِّ من أجل الرهبانيّة المخلّصيّة الكريمة. لنصلِّ من أجل الرهبانيّات ورهبانيّاتنا الملكيّة بنوع خاصّ لكي تتّسع أماكن تلاقيها وتعاونها وعملها المشترك.
أيّها الأحبّاء أشكركم جميعًا على حضوركم ومشاركتكم. أشكر أبنائي الكهنة والرهبان والراهبات. شكري الخاصّ لإخوتي السادة المطارنة الأجلاّء على حضورهم ومشاركتهم. والشكر الخالص لقدس الأب العامّ الأرشمندريت أنطوان ديب وللآباء المدبّرين وجميع الرهبان المخلّصيّين المحبوبين على هذا النهار المقدّس. الشكر الأوّل والأخير لله تعالى على العطيّة التي جاد بها علينا بشخص خادمه الأب بشارة أبو مراد المخلّصيّ، مع الوعد بالسير على خطاه في درب القداسة، ومع الرجاءِ بأن نشاهد في أقرب وقت إيقونته مرفوعة فوق مذابحنا. آمين.
زر الذهاب إلى الأعلى